تمهيد:    

      كان الاقتصاد الجزائري قبل الاحتلال الفرنسي يغلب عليه الطابع الزراعي إلى جانب بعض الصناعات الحرفية البسيطة المرتبطة بالإنتاج الزراعي. وقد بادر المستعمر غداة الاحتلال مباشرة إلى إصدار جملة من المراسيم والقرارات واتخاذ آليات وإجراءات قهرية ولصوصية لمصادرة الأراضي وحصرها وتحديدها ونهج سياسة الاغتصاب الإداري، بتوقيع الحجز أو البيع بالمزاد، ومنها:

مرسوم انتزاع الأراضي المستخدمة من القبائل كمراعي للماشية عام 1846؛

- صدور القرار الخطير باعتبار الجزائر مقاطعة فرنسية سنة 1848؛

-  سياسة القروض الربوية لانتزاع ملكية الفلاحين سنة 1850؛

قرار مجلس الشيوخ المتضمن إلغاء التمييز بين أراضي العرش والملك وتثبيت حق الملكية المشاعة أو الجماعية عام 1862؛

مرسوم الحقوق العقارية للحائزين الفرنسيين عام 1884؛

مرسوم خاص بمصادرة الأملاك المنقولة وغير المنقولة للسكان المحليين الذين يغادرون منازلهم لمدة تزيد عن 3 أشهر بدون إذن السلطة الفرنسية سنة 1885.

        ترتب عن الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر خلال الفترة (1830-1962) تشوهات كبيرة في هيكل الاقتصاد الجزائري منها:

·   خلق قطاع اقتصادي مزدوج، قطاع عصري أوروبي متطور يستعمل وسائل إنتاج متطورة ويستغل أجود الأراضي، وقطاع ثان تقليدي ريفي جزائري يغلب عليه الطابع الزراعي، يستعمل وسائل إنتاج بدائية ويستغل الأراضي غير الخصبة (الهامشية) على سفوح الجبال والوديان.

·   انفصال القطاع الحديث العائد للأوروبيين عن الزراعة الجزائرية (التوجه نحو منتجات زراعية صناعية كالحمضيات لتصدير الخمور).

·        في الفترة (1930-1945) التي شهدت تصدعا في الاقتصاد العالمي، كانت الصادرات الزراعية تلعب دور المحرك في النمو وتطور الدخل في الجزائر، فكان لتصدير الخمور دورا أساسيا في نمو الاقتصاد الجزائري (مثل القطن في مصر والقهوة في البرازيل)، وهذا ما دفع السلطات الاستعمارية إلى تركيز ملكية الأراضي أكثر في يد المعمرين منذ 1920 مما ولد أثر انكماشي في توزيع الدخول.

·        تحويل الفائض المنتج في الريف الجزائري خارج الجزائر مما أدى إلى تخلف الريف عموما والزراعـة خصوصا (%98  من السكان النشيطين يشتغلون في الزراعة ما بين 1930 و1945).

·        هدف الإنتاج عموما يتحدد طبقا لمتطلبات الاقتصاد الفرنسي ووفقا للسوق الأوروبية ولا يتحدد وفقا لاحتياجات الاقتصاد الجزائري، بل كرست السياسة التجارية للمستعمر اعتبار الجزائر منفذا لتصريف السلع الصناعية ومصدرا للتزود بمدخلات الإنتاج من المواد الأولية بأسعار منخفضة واليد العاملة الرخيصة، وأصبحت الجزائر منذ سنوات الخمسينيات مستوردا صافيا للمنتجات الزراعية الغذائية.

·        نتج عن ذلك تدهورا للوضع المعيشي للسكان الأصليين وعملية تفقير واسعة للمجتمع الجزائري وخاصة سكان الريف الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان الأصليين.

       شهدت الفترة ما بين (1930-1954) ركودا اقتصاديا في الزراعة والصناعة، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة خاصة في الأرياف و نزوح سكاني نحو المدن حيث ارتفع عدد سكان المدن من 500000 ساكن سنة 1932 إلى 2 مليون ساكن سنة 1960، ونحو فرنسا "حيث ارتفع عدد العمال الجزائريين من 93068 عامل إلى 194271 ما بين (1950-1960)". وقد تميز الاقتصاد الجزائري إلى غاية مشروع قسنطينة برأسمالية زراعية استعمارية ورأسمالية مالية تهتم بالنشاطات المنجمية والبنكية والتجارية لتعظيم أرباحها وتوسيع دائرة هيمنتها، ولذلك عملت الإدارة الاستعمارية على وضع سياسات لدعم تراكم رأس المال في الزراعة والصناعة وإجراء إصلاحات بهدف استقرار الأرياف خاصة مع انطلاق الحرب التحريرية.

2-    برنامج أكتوبر 1946:

      تضمن إنشاء وحدات صناعية امتدادا واحتياطيا للصناعات الفرنسية في الأزمات، وتم التركيز فيها على إنتاج الصناعات الاستهلاكية كالصابون والكبريت، وتصدير معظم المواد الخام بنسبة 90% إلى فرنسا، حيث ظهرت نسبة 40% من الصناعات الكيمياوية في غرب البلاد، ومنها الأسمدة والمبيدات والغاز المضغوط والسائل، وصناعة الزجاج المقعر سنة 1945-1946 بوهران، والتي ضمت 450 عاملا وبمعدل إنتاج 6600 طنا سنويا.

3-   مخطط قسنطينة 1959:

      قرر الجنرال ديغول تنفيذ خطة تنموية للحقبة من أكتوبر 1958 إلى غاية 1964 تدعيما لإطالة الوجود الإستعماري، تميزت بالشمول والتكامل عن البرنامج الأول، وخصص لقطاع التصنيع اعتمادا ضئيلا بما يعادل 16% فقط، وقد انصب اهتمام الخطة للامتصاص الجزئي من البطالة الحضرية بهدف تحقيق الإستقرار الإجتماعي، من دون إعداد أي حل لأزمة التراكم الرأسمالية.

ويرجع فشل برنامج قسنطينة في تحقيق أهدافه المسطرة (من الناحية الاجتماعية: بناء المدارس والمستشفيات والمساكن...، وفي المجال الصناعي: بناء وحدات صناعية مثل مركب الحجار للحديد والصلب، مركب أرزيو، محطة توليد الطاقة بالقبائل...، وفي المجال الزراعي: استصلاح الأراضي، بناء السدود...) إلى عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وإلى التحاق الشعب الجزائري بالحركة الوطنية، ومن ثم وجهت جل الأموال المخصصة لهذا البرنامج لتمويل العمليات الحربية للجيش الفرنسي ضد الثورة، حيث انتقلت النفقات العسكرية من 14 مليار فرنك فرنسي قديم قبل الثورة لتصل إلى 220 مليار خلال الفترة (54-61).

4-  ملاحظات حول الإقتصاد الجزائري أثناء الإستعمار الفرنسي:

       وما يمكن تسجيله اختصارا عن الفترة الاستعمارية بعض الملاحظات التي تعد مهمة من حيث آثارها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية بعد الاستقلال، لعل أولها:

-  مكانة قطاع المحروقات في الاقتصاد الوطني: منذ اكتشاف البترول في الجزائر سنة 1956 ازداد الاهتمام به من حيث حجم الاستثمارات المنجزة وحجم الإنتاج وكذا حصة المحروقات في الصادرات إلى الخارج، و الجدول أسفله يوضح حجم الاستثمارات التي ينجزها القطاع البترولي.

جدول رقم (01)  بنية الاستثمارات للفترة 59-1962

                                                                                                  مليون فرنك فرنسي   

القطاع البترولي

القطاع العام

القطاع الخاص

السنوات

1450

1345

845

1959

1520

1500

1630

1960

1230

2435

995

1961

920

1720

210

1962

5120

7000

3680

 

المجموع

 

-  النزوح الريفي: أدى التفقير المتزايد الذي سببه الاستغلال الاستعماري وجمود التوظيف في الزراعة، عدم انتظامية العمل الموسمي، تجزئة الأراضي وانخفاض مردوديتها، وإجمالا عدم قدرة الإدارة الاستعمارية على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الجزائري وعلى رأسها البطالة وتدهور المستوى المعيشي للسكان خاصة في الأرياف بالإضافة إلى القمع العسكري، ومن ثم الهجرة نحو المدن ونحو فرنسا، حيث نسجل أنه في الفترة ما بين (1920-1924) تمت هجرة ما يقرب من 200000 جزائري نحو فرنسا، وأصبح عددهم 763000 شخص ما بين (1949- 1954)، والهجرة الداخلية أدت إلى اختلال التوازن بين المدن والأرياف والتباين في توزيع الدخول، وكان أغلب النازحين يقطنون البيوت القصديرية، وتطور عددهم من 174000 شخص سنة 1906 إلى 356000 سنة 1946 منهم 100000 يقطنون البيوت القصديرية والأكواخ.

الفوارق الاجتماعية: هذه الفوارق الاجتماعية التي بدت في المجتمع الجزائري منذ الحرب العالمية الثانية، ففي الزراعة مثلا: هناك تمركز في الملكية العقارية، حسب إحصائيات سنة 1951 هناك 8500 مالك يحوزون على 1688000 هكتار أي 1.2% من الملاك يحوزون 25 %من الأراضي، واستمر هذا التمركز العقاري إلى غاية الاستقلال، بل سجل في سنة 1973 أن نسبة 8% من الملاك يحوزون نسبة 50% من المساحة الصالحة للزراعة. وفي مجال الصناعة والتجارة لا تخلو من الفوارق الاجتماعية، فقد سمح مخطط قسنطينة بظهور برجوازية تجارية وصناعية.

تغيير هيكلي في بنية الاقتصاد الجزائري: أدى هذا التشويه في بنية الاقتصاد الجزائري إلى تعميق التبعية وغرس جذور التخلف اقتصاديا، والمجاعة والفقر والأمراض اجتماعيا، أي تفكك العلاقات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الجزائري، كما تميز الاقتصاد الجزائري عقب الاستقلال بانفتاح على الخارج (انفتاح زراعي أكثر منه صناعي) وتفكك داخلي: ضعف الارتباط بين مناطق الوطن، والارتباط الوثيق بالاقتصاد الفرنسي سواء على مستوى القطاع الزراعي أو الصناعي، وبالنسبة لسوق العمل وسوق السلع على السواء فكل قطاع مرتبط بالخارج من حيث استيراد مدخلات الإنتاج أو تسويق مخرجاته.

فتح منافذ إضافية للصناعة الاستعمارية: أدت الحرب العالمية الثانية وخاصة في الفترة 43-45 إلى عزل الجزائر وبروز مشكلة الندرة والتضخم، ودفع ذلك المستعمر إلى تبني سياسة إحلال الواردات فأنجزت استثمارات في الصناعة الميكانيكية والمعدنية (الأدوات المنزلية، العربات...) صناعة كيماوية، صناعة مواد البناء...بينما واصلت الزراعة التصديرية في إنتاج الحمضيات والمواد الغذائية، كما نلاحظ أنه خلال الفترة (45-62) كانت الاستثمارات الصناعية مركزة جغرافيا في الجزائر، وهران، عنابة وقسنطينة، ولكنها غيرت من بنيتها الإنتاجية فأصبحت تتجه بصفة اقل نحو الأنشطة القاعدية (مثلما هو الحال أثناء فترة الحرب) وبصفة أكثر نحو الصناعات الخفيفة (خيوط الغزل، عصير الفواكه،...). أما القطاع البترولي فواصل تطوره بشكل واضح في حين تبذل جهود أقل بخصوص التنوع في بنية الاقتصاد الجزائري، كل هذا يؤكد أن الاستعمار هدفه إنشاء منفذ إضافي للصناعة الاستعمارية والبحث عن أسواق لتصريف منتجاته وليس إقامة صناعة حقيقية في الجزائر.