النقد التكويني ( الجزء2)
5-3-الوعي؛ CONSIANCE :
ينتمي مصطلح الوعي إلى حقل الدراسات النفسية وعلومها .وهو مصطلح شائع الاستعمال لدى كثير من النقاد الذين يوظفونه كأداة معرفية؛ تسهم في تقريب عمليات الشرح والتفسير خاصة في المنتجات الأدبية. غير أن الملاحظ على مستوى المصطلح في توظيفه -من قبل ميادين معرفية عدة هو- جنوحه إلى التبدل والتغير بفعل ملابسات التكوين الاجتماعي والنفسي سواء بالنسبة للفرد، أي:الوعي الفردي-آو بالنسبة إلى الجماعة أي:الوعي الجمعي.ومن ثمة اقر "غولدمان" صعوبة تحديد مفهوم الوعي.فمن الصعوبة بمكان ،تحديد الوعي تحديدا صارما ،فهو يستعصى على التحديد الدقيق لأن صلب مشكلته تقوم باعتباره ذاتا وموضوعا في الخطاب، فلا يمكن التعامل معه بشكل مستقل كمصطلح مجرد بعيد عن علاقاته بالنص وفي النص.[1]
ومن ثمة ؛ناقش"غولدمان" المصطلح عبر تحيين العوامل المشكلة للوعي وهي:
الغابرة،والقارة،والمرتبطة بالجماعة نفسها ،علما أن زوال العوامل الغابرة والقارة لا يؤدي إلى زوال المجموعة.أما العوامل المرتبطة بالمجموعة فان زوالها يؤدي إلى زوال المجموعة وإبادتها. [2]
وتأسيسا على ما سبق،تكون العوامل الغابرة والقارة جزئية ثانوية يمكن التخلي عنها أثناء استقراء مستويات الوعي في حين يجب تتبع مسارات الوعي بين الطبيعتين الفردية والاجتماعية أثناء التحليل. وهذا الأمر، يقتضي مراعاة مستوى الوعي الفردي في إطار الوعي الجماعي مع ضرورة التأكيد على طبيعة الفروق والملكات الفردية بين الأفراد«فقد ثبت بأن المرء يستطيع أن يلمس درجة من التناسق تتجاوز بكثير درجة التناسق التي يمتلكها الأعضاء الآخرون للمجموعة»[3].وربما هذا ما تصح تسميته بعبقرية الأديب آو المؤلف؛الذي يكاد بالفعل –وفي بعض الأحيان أن يتمثل ملابسات وضع مجموعته ويصوغها على شاكلة رؤيا العالم التي تتبناها الجماعة التي يعبر عنها .
وفي ضوء التمييز بين الفردي والجماعي ،استفاد "غولدمان" من المقولات الماركسية المادية التي تقارب الوقائع الإنسانية من منظور مادي محسوس،وراح يصنف مستويات الوعي.وخص منها الوعي القائم الفعلي، والوعي الزائف-الوهمي ؛الحلم- والوعي الممكن.انطلاقا من الوضع الاجتماعي للأشخاص و الطبقات والجماعات.
5-4-الوعي القائم والوعي الممكنConscience possible et conscience réelle:
على الرغم من إقراره بصعوبة تحديد مفهوم الوعي؛ناقش "غولدمان" مسار الوعي القائم والوعي الممكن،من زاوية كونهما المدخلين المناسبين لفهم المنجزات الثقافية الكبرى، فيغدو الأول وعيا قائما ناجمًا « عن الماضي بمختلف أبعاده وظروفه وأحداثه، بما تسعى كل مجموعة اجتماعية لفهم واقعها انطلاقًا من ظروفها المعيشية والاقتصادية والفكرية والدينية»[4]. وهو بهذا المفهوم يتقارب مع حقل علم النفس الذي يرى في الوعي القائم وعيا آنيا هو عينه الحالة النفسية للفرد أو الجماعة التي ينتمي إليها.فقد أكد عالم النفس "دلتاي Dilthey «أن الانطلاق من العالم –كما هو-يعتمد على الوعي الفردي ،على القدرة التي يملكها الفرد على أن يعيش صلة نفسية وان يفهمها عند الغير ،أن غرضه هو العثور على الانفعال المناسب بواسطة جماعية الانفعال والفهم التي تشكل المعرفة التاريخية ».[5]
وتأسيسا على ما سبق؛ تغدو الصلات النفسية بين الفرد وجماعته، الجسر الحامل لقضايا المجتمع واهتمامات أفراده .فتشكل بناءات الوعي قصد التعامل مع العالم بطريقة أكثر نفعية وانسجاما.
ومن هنا يمكن القول :
« أن الوعي الفعلي هو وعي آني لحظي من الممكن أن يعي مشاكله التي يعيشها، لكنه لا تملك لنفسه حلولا في مواجهتها والعمل على تجاوزها»[6]، فكثيرًا ما يحدث « أن الوعي القائم لجزء هام من أفراد جماعة تطمح إلى تغيير وضعها القانوني أو إلى الاندماج في جماعة أخرى، أو أن الأفراد المكونين لتلك الجماعة يجهدون جزئيا في تبني قيم جماعة أخرى غير جماعتهم ... ومع ذلك يتحتم على عالم الاجتماع ألاّ ينسى بأن هذه العناصر من الوعي القائم تظل في إطار أنماط الوعي الممكن لجماعة ما »[7].
أمّا الوعي الممكن؛ فهو الذي ينشأ عن ملابسات الوعي القائم ومحاولة تجاوزه، من خلال التأسيس لأفكار ذات بعد مستقبلي تغييري غالبا. وهذا طبيعي.فالوعي الممكن يسعى لتجاوز العوائق والمشاكل التي تصيب الطبقة ( المجموعة الاجتماعية )، كما يسعى إلى رصد الحلول الجذرية التي تنأى بها الطبقة عن مشكلاتها.وتحاول أن تضمن لها درجة من التوازن في العلاقات مع غيرها. وبالتالي يمكننا القول أن« الوعي الممكن يتضمن الوعي الفعلي وإضافة عليه أنه يستند عليه ولكنه يتجاوزه »[8] .
وخلاصة القول، أن الوعي الفعلي – القائم – يرتبط بوضع الإنسان أو الطبقة الاجتماعية عبر مسيرتها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، بينما يتجاوزها الوعي القائم بالبحث عن الآمال والحلول التي تغير الواقع وتطرح البدائل.
يقول "جابر عصفور": « عندما يصل الوعي الممكن إلى درجة التلاحم الداخلي تصنع كلية متجانسة من التصورات عن المشكلات التي تواجهها الطبقة وكيفية حلها، وعندما تزداد درجة التلاحم شمولا لتصنع بنية أوسع من التصورات الاجتماعية والكونية في آن، عندما يحدث ذلك يصبح الوعي الممكن رؤية للعالم».[9]
5-5-الفاعلية- subjectivité:
تعد موضوعة تحديد الفاعل الأدبي؛ من أهم القضايا والموضوعات التي شغلت حيزا هاما من الاهتمام على مستوى الدرس النقدي الحديث والمعاصر.كما تعد في الآن نفسه من اعقد القضايا التي تواجه الباحث في مقاربته للنصوص. يوضح "غولدمان "الفكرة السابقة بقوله :
»هناك في المقام الأول مشكلة من هو في الحقيقة الفاعل في الفكر وفي الفعل...يمكننا أن نرى هذا الفاعل في الفرد وتلك حالة المواقف التجريبية والعقلانية وبصورة متأخرة الفينومينولوجيا،ويمكننا أيضا تقليص الفرد إلى مجرد ظاهرة عارضة وان نرى في المجموعة الفاعل الحقيقي الوحيد والأصيل وتلك حالة بعض أنماط الفكر الرومانتيكي،ويمكننا أخيرا أن نقبل مع الرومانتيكية المجموعة بوصفها فاعلا حقيقيا دون أن ننسى مع ذلك ،أن هذه المجموعة ليست شيئا آخر؛ سوى شبكة معقدة من العلاقات عبر الفردية » [10].
وعليه؛ تغدو عملية تحديد الفاعل الأدبي،عملية صعبة وهي في الآن ذاته إجراء ضروري من إجراءات التحليل البنيوي التكويني .تهدف إلى تحديد العلاقات النسقية العقلية ومدى تمثلها أو تمظهرها جماليا على مستوى المنتجات الأدبية .ويمكن تقديم الفاعل الأدبي حسب طرح "غولدمان" على أساس انه الجهة المنظمة والموجهة لحركة النص الأدبي ؛وهو الفاعل –عبر الفردي أو الفاعل الجمع-الذي يمكن أن يكون فردا أو طبقة أو طائفة.ذلك أن «الجماعة وان كان يمكن قبولها كذات فاعلة حقيقية ،ليست سوى شبكة معقدة من العلاقات المتبادلة بين الأفراد «[11].
وبهذا تكون البنيوية التكوينية قد أرست تصورها حول الفاعل الأدبي وهو الإنسان ؛جاعلة كلا من العوامل الداخلية والخارجية للنص الأدبي، بنيات رئيسة أثناء فعل التحليل .وهذا ما يجعل البنية أكثر انفتاحا مما هي عليه في الدراسات النحوية واللسانية. فالبنية أو اللغة أو علاقات الإنتاج لا يمكن أن تكون بمثابة فاعل ،الفاعل الوحيد الممكن هو الإنسان الذي يصنع التاريخ،في إطار بنى ولغات وعلاقات إنتاج معينة. وما التاريخ من هذا المنظور إلا محصلة الممارسة التي تؤديها الجماعة البشرية.[12] ومن هذا المستوى، يمكن عرض الفعل والفاعلية عبر إضفاء صفة التاريخية على الفاعل الثقافي نفسه وذلك من خلال دراسة علاقات التفاعل بين مستويات الوعي القائم ،والوعي الممكن لدى فئة اجتماعية محدودة .مع محاولة تنميط مستويات الوعي انطلاقا من تتبع الأفكار وكيفية عرضها . وهذا ما يساعد على تحديد الفاعل الثقافي الأدبي وعلاقته بالمجموعة.
يقول "غولدمان"في هذا الصدد :«إن العلاقة الأساسية القائمة بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي لا ترتبط بمضمون هذين المجالين في الواقع الإنساني ،وإنما ترتبط فقط بالبنى الذهنية ،أي ما يمكن تسميته بالمقولات التي تنظم الوعي التجريبي الذي تتمتع به فئة اجتماعية معينة والعالم الخيالي الذي يخلقه الكاتب»[13].ومنه يصير الوعي الأرضية المنهجية والأداة الإجرائية
-في آن -لفهم وتفسير المنتجات الأدبية.
5-6- الفهم والتفسير/ Comprehension et explication:
اعتمد "غولدمان" في دراساته النقدية على ضابطين منهجيين هما الفهم والتفسير، فالفهم حسبه هو الكيفية التي يفهم بها الدارس عناصر النص الأدبي عبر بحث دقيق عن« الانسجام الداخلي والبنية الدالة الشاملة وملاحظة الترابط أو عدمه والثراء اللغوي»[14]، وهو بحث متعلق أساسًا بتتبع الانسجام الداخلي للنص، «وهو يفترض أن نتعامل حرفيا مع النص، كل النص ولا شيء غير النص»[15] .
وقد أوضح "جميل شحيد" هذا المفهوم في مؤلفه " في البنيوية التركيبية " معتبرًا بأنّ الفهم عملية فكرية تتمثل في الوصف الدقيق للبناء الدلالي الصادر عن العمل الأدبي/الإبداع المدروس فقط ، وعليه يمكن للباحث استخراج نموذج دال وبسيط يتكون من عدد محدود من العناصر والعلاقات التي تمكنه من إحصاء صورة إجمالية لكل نص بشرط أن يؤخذ النص وحده كاملا
دون إضافة خارجية عنه بواسطة خطوات هامة هي:
- إيجاد مجموعة من الأشكال الدالة للنص تسمح بإعطاء صورة إجمالية له ثم وضع علاقة شاملة لكل نص.
- تجنب حذف بعض العناصر وإضافة أخرى.[16]
أمّا التفسير فيهدف إلى معرفة البعد الاجتماعي لهذه البنيات اللغوية المدروسة أدبيا، فيحاول الناقد دمج هذه البنيات في بنية أكبر هي السياق الذي شهد ظهور النص. ومن ثمة فالتفسير يكفل تعميق النظر في البنية نفسها ؛باعتبارها وظيفة لبنية اجتماعية أوسع منها.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أن التفسير أوسع من الفهم بل يحتويه وهما في الواقع
« ليسا نسقين مختلفين، وإنما هما نسق واحد في إطارين من المرجعية»[17]. إذ لا يمكننا الفصل بين مرحلة الفهم ومرحلة التفسير لأن الأولى تنصبّ على تحليل الأبنية الداخلية للعمل الأدبي،وهي ما يسميها غولدمان بالقراءة المحايثة[18].أما التفسير - المرحلة الثانية- فيتأسس على تحليل البنيات المفسرة وإدماج الأولى فيها وتعبيرها من خلال الثانية؛ أي أن التفسير، يقتضي عند الدرس «إنارة النص بعناصر خارجية عليه بغية الوصول إلى إدراك مقوماته ... بإدخال بنية دلالية في بنية أخرى أوسع منها، تكون فيها الأولى جزءًا من مقوماتها »[19] .
5- 7-رؤية العالم ؛ Vision du monde:
يعود تاريخ استعمال مصطلح "رؤية العالم" إلى المفكر الألماني "دلتاي DELTHAY" الذي لم يجعله «مفهوما إجرائيا بل مكونا فعالا لما يعانيه الفرد ويعيشه»[20].وعلى الرغم من الصبغة الماركسية التي كست المصطلح إلا أن توظيفه في السياق الأدبي قد نم عن رغبة جامحة - من قبل النقاد والمفكرين-تسعى إلى تعيين الأطر التي دفعت الكاتب إلى التعبير عما قاله داخل العمل الأدبي.ذلك أن هذه الرؤية تقوم في تشكلها على جملة من المقولات العقلية التي خصها "غولدمان " لتحديد آفاق الأفكار التي تحملها الطبقات لرسم واقعها أو لتحديد مستقبلها .
يقول" غولدمان" بهذا الصدد:« المقولات العقلية لا توجد في الجماعة إلا في شكل نزعات متقدمة نسبيا نحو تماسك أطلقنا عليه رؤية العالم »[21].
ولقد شكل مفهوم رؤية العالم ،الأرضية المنهجية التي يمكن عبرها مقاربة النصوص الأدبية حسب تصور غولدمان ؛إذ ساهم هذا المفهوم بتثبيت أركان نظريته كنظرية فلسفية نقدية خصوصا انه حدد رؤية العالم كنموذج تفسيري، يستفيد من المنهجية التي قامت عليها الطريقة السوسيولوجية في العمل على النص .إضافة إلى انه يجعل الأبعاد السوسيولوجية عمودا أساسا من أعمدتها .[22]
وباعتبار الخلفية الماركسية للمصطلح –النظرية- فان حضور فكرة الطبقات الاجتماعية أثناء فعل التحليل تسهم بشكل فاعل في تحديد الأفكار الناتجة عن تفاعل هذه الطبقات والظروف والعوامل المساندة ،كالوضع الاقتصادي ،وشروط الإنتاج.وتجدر الإشارة ،إلى أن "غولدمان "-رغم أهمية قيمة الطبقة الاجتماعية-لم يشترط « أن تولد النظرة إلى العالم عند الأديب الفيلسوف في طبقته الاجتماعية أو الوسط الذي نشأ فيه».[23]
وعليه ،يستوجب ربط الطبقات الاجتماعية برؤية العالم وبيان العلاقة التي تربط بينهما ،وهذا الربط ،هو الذي سهل على "غولدمان" التخلص من مقولات التأثر والتأثير والتي ساعدته على تجاوز الربط البسيط والآلي لوضع الطبقات المعبر عنها في النص الأدبي وما يحتويه –هذا الأخير- من أفكار تجسد في كليتها رؤية العالم.
ومن هذه الزاوية،عمل" غولدمان" على تعيين جملة العقبات التي تواجه البحث التكويني حول رؤية العالم محددا إياها بمدى "معرفة علاقات النظرة بالطبقة الاجتماعية وتحديد العلاقات بين مختلف النظرات المتواجدة في وقت واحد،ثم مشكلة الخيال والسلوك"[24] ذلك أن الخيال الإنساني يجب أن يبقى على صلة مع سلوك الإنسان نفسه،علما بأن الطبقة الاجتماعية هي التي تحدد طبيعة السلوك ضمن منظومة اجتماعية تحدده،وهذه النظرة الشاملة تستوعب النظرات الجزئية لهذا العالم .
وإلى جانب مراعاة السلوك والخيال ؛أشار "غولدمان" إلى مساحة الرؤية أو زاويتها ومدى عمقها ونفاذها، معتبرا إياها ،عناصر مهمة للتمييز بين الرؤية من الداخل أو من الخارج[25].فالنظرة إلى العالم سواء أكانت داخلية أو خارجية تقوم على صاحب الرؤية ذاته؛إن كان من الطبقة التي شكلت الرؤية وزاويتها أم من خارجها.فمثل هذا الأمر يؤثر في خصوصيات الرؤية من حيث العمق أوالسطحية ،أو حتى في زاوية الرؤية ذلك انه « ليس هناك فرق كبير بين زاوية الرؤية أو مساحتها من جانب ومدى عمقها ونفاذها من جانب آخر».[26] وتبقى مناقشة الرؤية إلى العالم ،السبيل الأوحد لفهم النصوص الثقافية الكبرى ،باعتبارها تجليا للتكوين المعرفي الذي يستوعب النصوص في حد ذاتها .وفي هذا المستوى يولي "غولدمان" اهتماما خاصا بمقولة البنية الدالة التي تشكل مع مقولة رؤية العالم "وحدة متكاملة" وهذا التكامل بينهما جاء من تقسيم التعامل مع النص الأدبي بينهما ، فأنيطت مسألة شرح العمل الأدبي وتفسيره بالبنية الدالة ،في الوقت الذي كانت فيه رؤية العالم هي التي تفهمه وتدركه وتصفه في إطاره الاجتماعي المتميز[27].
أما عن مدى تماثل رؤية العالم مع الأديب المنتج-صاحب الرؤية- فقد أشار "غولدمان" إلى المنظور الذي ينطلق منه الأديب-الفنان- في عمله ، فهو حسبه محدد برؤية العالم وسيكون فنه أرستقراطيا أو برجوازيا،أو بروليتاريا، بقدر ما تكون هذه الرؤية ارستقراطية ،برجوازية،أوبروليتارية[28].ومن مقاربة أشكال التماثل القائمة بين رؤية العالم والأديب المنتج ،استخلص "غولدمان" أنواع الرؤية للعالم التي صنفها إلى «مأساوية،عقلانية،وجودية،جدلية»[29] مع ضرورة ربطها بفترة زمنية تاريخية معينة .ومن ثمة؛ يتم ربطها بالبنية الذهنية والإطار الاجتماعي والاقتصادي للطبقة الاجتماعية التي انطلقت منها[30]؛وهذا ما يقود إلى إمكانية تغير الرؤية باعتبار الظروف التي تتحكم في صيرورة المجموعة الاجتماعية ،فيتيح لها ذلك القدرة على التكيف مع مستجدات الحياة ، بالإضافة إلى إمكانية تغيير زوايا النظر إزاء العالم ، والانتقال من نوع-رؤية-إلى آخر.
تعد مقولة رؤية العالم جوهر المنهج التكويني[31]، بحيث تستقطب إلى فلكها بقية عناصر التحليل، فتشكل بنية شاملة قادرة على « تشكيل العالم والذات والنص، كما تكون قادرة على التحليل والتفسير والتقييم والتقويم في الوقت نفسه »[32].كما تقتضي "رؤية العالم" ضرورة التميز بين الوعي الفردي والوعي الجماعي قصد بلوغ نتائج أكثر واقعية؛ فعبر التمييز بين مستويات الوعي وتحديد خطابات المبدع وخطابات الجماعة، يتحول النص الأدبي إلى منتج جماعي جمالي يستدعي جمهور قراء لتفسير إشاراته وتنبيهاته ورموزه ومفاهيمه؛ وهذا ما يدل أن العلاقة بين الوعي الفرد – المبدع - ووعي الجماعة يتداخلان عبر علاقة حوارية متواصلة تكفلها رؤية مستقبلية تنبؤية، أساسها «وجهة نظر منظمة لفئة –أو- [33][34]مجموعة من البشر الذين يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية مماثلة »[35]. وبذلك تكون رؤية العالم، الأساس الموضوعي الذي من خلاله يمكن للناقد أن يسبر أغوار النص من خلال التحليل المنفتح على ثنائية الداخل والخارج؛ وهذا ما يساعد أكثر على التفسير والتأويل.
ورغم أن المفهوم، الذي اقترحه "غولدمان" يبقى فضفاضا غير قابل للتحديد التام إلا أن أبحاثه ضبطته في إطار خاص يستوفي علوما كثيرة « تمثل في النهاية مزيجا من أدوات التفسير وبذلك تتماس البنيوية التكوينية مع كثير من علوم العصر المتقدمة إلى جانب مناهج النقد الأدبي والتحليل الاجتماعي النفسي للأدب»[36].وهذا ما يمنح البحث التكويني أفاقا جديدة لسبر أغوار النصوص وتأثيراتها الذهنية في جماعة المتلقين.
خاتمة:
التحليل البنيوي التكويني من أهم التطبيقات النقدية في تاريخ الأدب. يبحث في العلاقة بين العناصر الداخلية للنص بصفتها أبنية عقلية، وبين مراميها المضمونية التي ترتبط ببناءات الوعي لدى مجموعة لغوية بشرية. وفي هذه العلاقة تندمج المعطيات الشكلية والوجدانية لتكون بنية أوسع هي البنية الدالة، وهي « محاولة لتقديم جواب دلالي على موقف معين وغايتها خلق توازن بين الذات الفاعلة وبين موضوع الفعل أي العالم المكتنف بها»[37].
- غاية البنيوية التكوينية إظهار العلاقة الفعلية القائمة بين الأدب والمجتمع والتاريخ باعتبارها أبنية متعالية والتأكيد على هذه العلاقة .
- البنيوية التكوينية في نظرتها للأدب تقارب الطابع الجمالي له من خلال عرض بنى عالم المبدع المتجانسة مع البنى العقلية لبعض الجماعات الاجتماعية. - تهتم البنيوية التكوينية حسب "غولدمان " بالنص الأدبي وتقاربه وفق ثلاث زوايا
*أولها زاوية العمل الأدبي ، وتدرس فيه تركيب النص وخصوصيته النصية البنائية.
* ثانيها ؛منتج العمل الأدبي :فتحفر في مستوى العلاقة بين الجماعة المبدعة والمبدع نفسه،"يهدف البحث التكويني إلى معرفة البعد الاجتماعي للبنيات اللغوية المدروسة أدبيا، فيحاول الناقد دمج هذه البنيات في بنية أكبر هي السياق الذي شهد ظهور النص. ومن ثمة يفسر الناقد هذه البنية نفسها ؛باعتبارها وظيفة لبنية اجتماعية أوسع منها.
- * ثالثها :الفترة التاريخية التي أنتج فيها العمل ،ويقوم الباحث عبرها بأخذ معرفة مسبقة حول المرحلة التاريخية التي ظهر فيها ،والفئة الاجتماعية التي يعبر عنها، فيعمد إلى تتبع سيرة المؤلف وملابسات ظروف عصره السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الإحالات والهوامش:
[1]- صالح ولعة: « البنيوية التكوينية مجلة التواصل ،مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، ،ص259
15- لوسيان غولدمان: الوعي القائم والوعي الممكن ،تر:محمد برادة،البنيوية التكوينية والنقد الأدبي ، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ،1984،ص37.
16-يون باسكادي : البنيوية التكوينية ولوسيان غولدمان،تر:محمد سبيلا مؤسسة الابحاث العربية ،بيروت،لبنان،ط2،1986 ص 15 .
[6] - صالح سليمان عبد العظيم : سوسيولوجيا الرواية السياسية ،الهيئة المصرية للكتاب،القاهرة،ط 1998 ،ص57.
[7] -صالح ولعة : البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مرجع سابق، ص256.
[8] -صالح سليمان عبد العظيم : سوسيولوجيا الرواية السياسية ،مرجع سابق،ص85.
24- محمد خرماش : إشكالية الناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر ،دار طوبقال للنشر والتوزيع /المغرب ،1996 ص19.
[14]- أحمد سالم ولد أباه : البنيوية التكوينية ، البنيوية التكوينية و النقد العربي الحديث، المكتبة المصرية العامة، مصر ،ط1 1996ص 60.
[15]-صالح ولعة : البنيوية التكوينية ولوسيان غولدمان، مجلة التواصل ، مرجع سابق ،ص251.
[16]- أحمد سالم ولد أباه : البنيوية التكوينية ،مرجع سابق ،ص62.
[17]- المرجع نفسه ،ص 62.
[18] -يقول غولدمان:"الفهم محايث للنص والتفسير يستدعي عوامل خارجية عن هذا الأخير".ينظر؛ لوسيان غولدمان :العلوم الإنسانية والفلسفة ،تر:يوسف الأنطاكي،المجلس الأعلى للثقافة،مصر،ط1،1996.
[19]- جمال شحيد: البنيوية التركيبية ،مرجع سبق ذكره،ص 85.
33-ر.هيندلس: مفهوم النظرة إلى العالم وقيمته في نظرية الأدب،تر:عبد السلام بنعبد العالي ،من كتاب البنيوية والنقد الأدبي مؤسسة الأبحاث العربية ،بيروت،1984،ص114
[21]-لوسيان غولدمان: مقدمات في سوسيولوجية الرواية ،مرجع سابق،ص234 .
35-جاك دوبوا : نحو نقد أدبي سوسيولوجي،تر:قمري البشير،من كتاب:البنيوية والنقد الأدبي،مؤسسة الأبحاث العربية بيروت،1984،ص76.
[23] - لوسيان غولدمان : المادية الديالكتيكية وتاريخ الأدب والفلسفة ،مرجع سابق ،ص9.
[24]- ر،هيندلس: مفهوم النظرة إلى العالم وقيمته في نظرية الادب ،مرجع سابق ،ص117.
[25]- ينظر،صلاح فضل: لنظرية البنائية في الأدب والنقد. مرجع سابق ،ص9 .
[26]- المرجع نفسه، ص243 .
[27]- المرجع نفسه،ص49 .
[28]- لوسيان غولدمان:المادية الدياليكتيكية وتاريخ الأدب والفلسفة،مرجع سابق،ص22-23 .
[29]- فؤاد أبو منصور:النقد البنيوي الحديث،نصوص-جماليات-تطلعات-دار الجيل ،بيروت،1985،ص126.
[31]- للإطلاع أكثر،ينظر: تودوروف كنت و آخرون:القصة،الرواية،المؤلف،تر:خيري دومة، مر:سيد البحراوي، دار الشرقيات القاهرة،1997،ص107.
[32] - مدحت الجيار : النص الأدبي من منظور اجتماعي، دار الوفاء للنشر، الإسكندرية، ط 1، 2001، ص 66.
[35] - جمال شحيد :البنيوية التركيبية،مرجع سابق،ص 66.
[36] - المرجع نفسه،ص67.
[37]- بسام قطوس: المدخل إلى مناهج النقد المعاصر،مرجع سابق،ص 133.
قائمة المصادر والمراجع:
1- محمد خرماش : إشكالية الناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر ،دار طوبقال للنشر والتوزيع /المغرب ،1996.
2-أحمد سالم ولد أباه : البنيوية التكوينية ، البنيوية التكوينية و النقد العربي الحديث، المكتبة المصرية العامة، مصر ،ط1 1996.
3- بسام قطوس: المدخل إلى مناهج النقد المعاصر،دار الوفاء الإسكندرية ،مصر ،ط1 2006.
4- تودوروف كنت و آخرون:القصة،الرواية،المؤلف،تر:خيري دومة، مر:سيد البحراوي، دار الشرقيات القاهرة،1997.
5- -جاك دوبوا : نحو نقد أدبي سوسيولوجي،تر:قمري البشير،من كتاب:البنيوية والنقد الأدبي،مؤسسة الأبحاث العربية بيروت،1984.
6- ر.هيندلس: مفهوم النظرة إلى العالم وقيمته في نظرية الأدب،تر:عبد السلام بنعبد العالي ،من كتاب البنيوية والنقد الأدبي مؤسسة الأبحاث العربية ،بيروت،1984.
7- ستيبان اودويف :على دروب زرادشت، تر:فؤاد أيوب ،دار دمشق،سوريا،ط1.د.ت .
8- شكري عزيز ماضي: في نظرية الأدب، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1993.
9- صالح سليمان عبد العظيم : سوسيولوجيا الرواية السياسية ،الهيئة المصرية للكتاب،القاهرة،ط 1998 .
10- صالح ولعة: « البنيوية التكوينية»، مجلة التواصل ،مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة عنابة، عدد 08 جوان 2001.
11- صلاح فضل : النظرية البنائية في الأدب والنقد،دار الشروق ،القاهرة 1996.
12- عمر محمد الطالب: مناهج الدراسات الأدبية الحديثة، دار اليسر للنشر و التوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1988.
13- فؤاد أبو منصور:النقد البنيوي الحديث،نصوص-جماليات-تطلعات-دار الجيل ،بيروت،1985.
14- لوسيان غولدمان : المادية الديالكتيكية وتاريخ الأدب والفلسفة،تر:نادر ذكرى، دار الحداثة للباعة والنشر،بيروت،ط 1981.
15- لوسيان غولدمان : مقدمات في سوسيولوجيا الرواية ،تر:بدر الدين عروكي ،د.ت.د.ط
16- لوسيان غولدمان :العلوم الإنسانية والفلسفة ،تر:يوسف الأنطاكي،المجلس الأعلى للثقافة،مصر، 1996.
17- لوسيان غولدمان: الوعي القائم والوعي الممكن ،تر:محمد برادة،البنيوية التكوينية والنقد الأدبي ، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ،1984.
18- مدحت الجيار : النص الأدبي من منظور اجتماعي، دار الوفاء للنشر، الإسكندرية، ط 1، 2001.
19- ميخائيل انوود: معجم مصطلحات هيغل،تر: إمام عبد الفتاح، المجلس الأعلى للثقافة، مصر.
20- يوسف حامد جابر: البنيوية في النقد الأدبي المعاصر، دار لبنان للنشر والتوزيع ،لبنان 1988
21- يون باسكادي : البنيوية التكوينية ولوسيان غولدمان،تر:محمد سبيلا مؤسسة الأبحاث العربية ،بيروت،لبنان،ط2،1986.
- Teacher: kamel rais