بعد عملية تحديد المشكلة، تأتي مرحلة جمع كافة الحقائق و الوقائع المتعلقة بالمشكلة، وذلك عن طريق حصر و جمع كافة المصادر و الوثائق و الآثار و التسجيلات المتصلة بعناصر المشكلة، ودراسة وتحليل هذه الوثائق بطريقة علمية للتأكد من صحتها و سلامة مضمونها.

ونظرا لأهمية و حيوية هذه المرحلة أطلق البعض على المنهج التاريخي اسم "منهج الوثائق"، فالوثائق التاريخية هي جوهر المنهج التاريخي.

و الوثيقة في اللغة الأداة و البنية المكتوبة الصحيحة و القاطعة في الإثبات، و هي مأخوذة من وثق يثق ثقة أي ائتمنه، الشيء الوثيق أي الشيء المحكم.

أما في الاصطلاح فهي جميع الآثار التي خلقتها أفكار البشر القدماء.

و الوثائق أوسع من النص المكتوب، حيث تشمل كافة الوثائق و المصادر و الأدلة و الشواهد التاريخية، أصيلة و أولية، أو ثانوية و تكميلية، مكتوبة أو غير مكتوبة، رسمية أو غير رسمية، مادية أو غير مادية، والتي تتضمن تسجيلا لحوادث ووقائع تاريخية، أو لبعض أجزائها و عناصرها، يعتمد عليها ي البحث للوصول إلى الحقيقة التاريخية المتعلقة بالمشكلة محل الدراسة و البحث.

3 نقد الوثائق التاريخية:           

بعد عملية حصر وجمع الوثائق التاريخية، تأتي مرحلة فحص وتحليل هذه الوثائق، تحليلا علميا دقيقا عن طريق استخدام كافة أنواع الاستدلالات والتجريب، للتأكد من مدى أصالة وهوية و صدق هذه الوثائق.

و تعرف عملية التقسيم و الفحص و التحليل هذه بعملية النقد، وتتطلب صفات خاصة في الباحث، مثل الحس التاريخي القوي، الذكاء اللماح، الإدراك العميق، الثقافة الواسعة والمعرفة المتنوعة، و كذا القدرة القوية على استعمال فروع العلوم الأخرى في تحليل ونقد الوثائق التاريخية، مثل اللغة وعلم الكيمياء وعلم الأجناس، ومعرفة اللغات القديمة والحديثة.

وهذا النقد قد يكون نقدا خارجيا أو نقدا داخليا.

1)   - النقد الخارجي للوثائق التاريخية: يستهدف هذا النقد التعرف على هوية وأصالة الوثيقة والتأكد من مدى صحتها، وتحديد زمان و مكان و شخصية المؤلف للوثيقة، و كذا ترميم أصلها إذا طرأت عليها تغييرات و إعادتها إلى حالتها الأولى.

و يمكن القيام بهذه العملية عن طريق طرح الأسئلة التالية:

-         هل تطابق لغة الوثيقة و أسلوب كتابتها و خطها و كيفية طباعتها مع أعمال المؤلف الأخرى و مع الفترة التي كتبت فيها الوثيقة؟

-         هل هناك تغييرات في الخطوط؟

-         هل هذه الوثيقة أصلية أم هي نسخة منقولة عن الأصل؟

-         هل يظهر المؤلف جهلا ببعض الأشياء التي كان من المفروض أن يعرفها؟

إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بالجانب المادي و المظهر الخارجي للوثيقة.

2)   – النقد الداخلي للوثائق التاريخية: و يتم عن طريق تحليل و تفسير النص التاريخي والمادة التاريخية، وهو ما يعرف بالنقد الداخلي الإيجابي، وبواسطة إثبات مدى أمانة وصدق الكاتب ودقة معلوماته، وهو ما يعرف بالنقد الداخلي السلبي.

ويمكن القيام بعملية النقد الداخلي بواسطة طرح الأسئلة التالية:

-         هل المؤلف صاحب الوثيقة حجة في الميدان؟

-         هل يملك المؤلف المهارات و القدرات و المعارف اللازمة، لتمكينه من ملاحظة الحوادث التاريخية و تسجيلها؟

-         هل حالة المؤلف الصحية و سلامة حواسه وقدراته العقلية تمكنه من الملاحظة العلمية الدقيقة و الكاملة للحوادث التاريخية و تسجيلها بصورة سليمة؟

-         هل ما كتبه المؤلف كان بناء على ملاحظته المباشرة أم نقلا عن شهادات الآخرين، أو اقتباسا من مصادر أخرى؟

-         هل اتجاهات وشخصية المؤلف تؤثر في موضوعية التأليف، في ملاحظته و تقريره للحوادث التاريخية؟

و ما إلى ذلك من الأسئلة التي يمكن أن تضبط الأمر.

 

 

بعض قواعد التحليل و النقد:

وضع Van Dalen بعض القواعد والمبادئ التي تساعد على عملية النقد وتحليل الوثائق التاريخية، نذكر منها:

-         لا تقرأ في الوثائق التاريخية القديمة مفاهيم وأفكار أزمنة لاحقة و متأخرة.

-         لا تتسرع في الحكم على المؤلف بأنه يجهل أحداثا معينة لأنه لم يذكرها، ولا يعتبر عدم ذكر الأحداث في الوثائق دليل على عدم وقوعها.

-         لا تبالغ في تقدير قيمة المصدر التاريخي، بل أعطيه قيمته العلمية الحقيقية.

-         لا تكتف بمصدر واحد فقط ولو كان قاطع الدلالة والصدق، بل حاول كلما أمكن ذلك بتأييده بمصادر أخرى.

-         إن الأخطاء المتماثلة في مصدرين أو أكثر تدل على نقلها على بعضها البعض، أو نقلها من مصدر واحد مشترك.

-         الوقائع التي يتفق عليها الشهود والأكثر كفاية وحجة تعتبر مقبولة.

-         يجب تأييد وتدعيم الشهادات والأدلة الرسمية الشفوية والكتابي بالشهادات والأدلة غير الرسمية كلما أمكن ذلك.

-         اعترف بنسبية الوثيقة التاريخية، فقد تكون دليلا قويا وكافيا في نقطة معينة، ولا تعتبر كذلك في نقطة أو نقاط أخرى.

 

مراجع يستعان بها:

-         ابن خلدون: المقدمة.

-         ليلى الصباغ: دراسة في منهجية البحث التاريخي.

-         أسد رستم: مصطلح التاريخ.

-         حسن عثمان: منهج البحث التاريخي.

-         مصطفى شاكر: التاريخ هل هو علم؟

-         عادل حسين غنيم، جمال محمود حجر: في منهج البحث التاريخي.  

-         نصر الدين سعيدوني: أساسيات منهجية البحث التاريخي.

-         جواد علي: في الحضارة التاريخية.

-         محمد صالح ناصر: منهج البحث وتحقيق النصوص.

-         وجيد كوثراني: تاريخ التأريخ- اتجاهات- مدارس- مناهج.